فصل: باب الظِّهَارِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب خِيَارِ الأمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ رَأَيْتُهُ عَبْدًا، يَعْنِى زَوْجَ بَرِيرَةَ‏.‏

وقال مرة‏:‏ ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِى فُلانٍ أَسْوَدَ، كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا فِى سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَبْكِى عَلَيْهَا‏.‏

أجمع العلماء أن الأمة إذا عتقت تحت عبد، فإن لها الخيار فى البقاء معه أو مفارقته، ومعنى ذلك، والله أعلم، أنه لما كان العبد فى حرمته وحدوده وجميع أحكامه غير مكافئ للحرة، وجب أن تخير تحته إذا حدثت لها الحرية فى عصمته، وأيضًا فإنها حين وقعت العقدة عليها لم تكن من أهل الاختيار لنفسها، فجعل لها ذلك حين صارت أكمل حرمة من زوجها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأصل هذا فى كتاب الله، وهو قوله‏:‏ ‏(‏ومن لم يستطع منكم طولاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ الآية‏.‏

فكان اشتراط الله تعالى فى جواز نكاح الأحرار الإماء عدم الطول إلى الحرة، وجب مثله فى العبد أن لا يتطاول إلى حرة بعد أن وجدت سبيلاً إلى حر إلا برضاها‏.‏

واختلفوا فى وقت خيار الأمة إذا أعتقت، فروى عن ابن عمر وأخته حفصة أن لها الخيار ما لم يمسها زوجها، وهو قول مالك، وأحمد بن حنبل، علمت أو لم تعلم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لها الخيار، وإن أصيبت ما لم تعلم، فإذا علمت ثم أصابها، فلا خيار لها، هذا قول عطاء، والحكم، وسعيد بن المسيب، وهو قول الثورى‏.‏

قال الثورى‏:‏ هو أن تحلف ما وقع عليها وهى تعلم أن لها الخيار، فإن حلفت خيرت، وكذلك قال الأوزاعى، وإسحاق، وقال الشافعى‏:‏ إن ادعت الجهالة لها الخيار، وهو أحب إلينا‏.‏

وفى هذا الحديث ما يبطل أن يكون خيارها على المجلس؛ لأن مشيها فى المدينة لم يبطل خيارها، وقد روى قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ والله لكأنى أنظر إلى زوج بريرة فى طرق المدينة، وإن دموعه لتنحدر على لحيته يتبعها يترضاها لتختاره، فلم تفعل‏.‏

ومثل هذا فى حديث زبراء، أنها كانت تحت عبد فعتقت، فسألت حفصة أم المؤمنين، فقالت‏:‏ إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك، فقالت‏:‏ هو الطلاق ثلاثًا، ففارقته، رواه مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير‏.‏

وفى حديث بريرة حجة لمن قال‏:‏ لا خيار للأمة إذا عتقت تحت الحر؛ لأن خيارها إنما وقع من أجل كونه عبدًا، وقد روى أهل العراق، عن الأسود، عن عائشة، أن زوج بريرة كان حرًا‏.‏

واختلف العلماء فى الأمة إذا أعتقت تحت الحر، فروى عن ابن عباس، وابن عمر، أنه لا خيار لها، وهو قول عطاء، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن أبى ليلى، وبه قال مالك، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لها الخيار حرًا كان زوجها أو عبدًا، روى ذلك عن الشعبى، والنخعى، وابن سيرين، وهو قول الثورى، والكوفيين، وأبى ثور، واحتجوا برواية الأسود، عن عائشة، أن زوجها كان حرًا، وقالوا‏:‏ الأمة لا رأى لها فى إنكاح مولاها؛ لإجماعهم أنه يزوجها بغير إذنها، فإذا عتقت كان لها الخيار الذى لم يكن لها حال العبودية‏.‏

وحجة من قال‏:‏ لا خيار لها تحت الحر، أنها لم تحدث لها حال ترتفع به عن الحر، فكأنهما لم يزالا حرين ولم ينقص حال الزوج عن حالها، ولم يحدث به عيب، فلم يكن لها خيار، وقد أجمع العلماء أنه لا خيار لزوجة العنين إذا ذهبت العلة قبل أن يقضى بفراقه لها، وكذلك سائر العيوب زوالها ينفى الخيار، وأما رواية الأسود، عن عائشة، فقد عارضها من هو ألصق بعائشة وأقعد بها من الأسود، وهو القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، رويا عن عائشة أنه كان عبدًا، والأسود كوفى سمع منها من وراء حجاب، وعروة والقاسم كانا يسمعان منها بغير حجاب؛ لأنها خالة عروة وعمة القاسم، فهما أقعد بها من الأسود‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ورواية اثنين أولى من رواية واحد مع رواية ابن عباس من الطرق الثابتة أنه كان عبدًا‏.‏

باب شَفَاعَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى زَوْجِ بَرِيرَةَ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ‏:‏ مُغِيثٌ، كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِى، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِعبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏يَا عَبَّاسُ، أَلا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا‏)‏‏؟‏ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ رَاجَعْتِهِ‏)‏، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِى، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ‏)‏، قَالَتْ‏:‏ لا حَاجَةَ لِى فِيهِ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فيه من الفقه جواز استشفاع العالم والخليفة فى الحوائج والرغبة إلى أهلها فى الإسعاف لسائلها، وأن ذلك من مكارم الأخلاق، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اشفعوا تؤجروا، ويقضى الله على لسان رسوله ما شاء‏)‏، وهذا يدل أن الساعى فى ذلك مأجور، وإن لم تنقض الحاجة‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أنه لا حرج على إمام المسلمين وحاكمهم إذا اختصم إليه خصمان فى حق وثبت الحق على أحدهما، إذا سأله الذى ثبت الحق عليه أن يسأل من ثبت ذلك له تأخير حقه أو وضعه عنه، وأن يشفع له فى ذلك إليه، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم شفع إلى بريرة وكلمها بعدما خيرها وأعلمها ما لها من الخيار، فقال‏:‏ ‏(‏لو راجعتيه‏)‏‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن من سئل من الأمور ما هو غير واجب عليه فعله، فله رد سائله وترك قضاء حاجته، وإن كان الشفيع سلطانًا أو عالمًا أو شريفًا؛ لأن النبى، عليه السلام، لم ينكر على بريرة ردها إياه فيما شفع فيه، وليس أحد من الخلق أعلى رتبة من النبى، عليه السلام، فغيره من الخلق أحرى ألا يكون منكرًا رده فيما شفع فيه‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن بغض الرجل للرجل المسلم على وجه كراهة قربه والدنو منه على غير وجه العداوة له، ولكن اختيار التبعد منه لسوء خلقه وخبث عشرته وثقل ظله، أو لغير ذلك مما يكره الناس بعضهم من بعض جائز، كالذى ذكر من بغضه امرأة ثابت بن قيس بن شماس له، مع مكانه من الدين والفضل لغير بأس، لكن لدمامة خلقه وقبحه حتى افتدت منه، وفرق بينهما النبى صلى الله عليه وسلم، ولم ير أنها أتت مأثمًا ولا ركبت معصية بذلك بل عذرها وجعل لها مخرجًا من المقام معه وسبيلاً إلى فراقه والبعد منه، ولم يذمها على بغضها له على قبحه وشدة سواده، وإن كان ذلك جبلة وفطرة خلق عليها، فالذى يبغض على ما فى القدرة تركه من قبيح الأحوال ومذموم العشرة أولى بالعذر وأبعد من الذم‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة التى يريد خطبتها وإظهار رغبته فيها، وذلك أنه عليه السلام لم ينكر على زوج بريرة وقد اختارت نفسها وبانت منه اتباعه إياها فى سكك المدينة باكيًا على فراقها، وإن ظن أحد أن ذلك كان قبل اختيار بريرة نفسها، فقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو راجعتيه‏)‏، يدل أن ذلك كان بعد بينونتها، ولو كان قبل بينونتها لقال لها‏:‏ لو اخترتيه‏.‏

ولا خلاف بين الجميع أن المملوكة إذا عتقت وهى تحت زوج فاختارت نفسها، أنها لا ترجع إلى الزوج الذى كانت تحته إلا بنكاح جديد غير النكاح الذى كان بينها وبينه قبل اختيارها نفسها، فعلم أن قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو راجعتيه‏)‏، معناه غير الرجعة التى تكون بين الزوجين فى طلاق يكون للزوج فيه الرجعة، ولو كان ذلك معناه لكان ذلك إلى زوج بريرة دونها، ولم يكن لزوجها حاجة أن يستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم فى أن تراجعه‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا حرج على مسلم فى هوى امرأة مسلمة وحبه لها ظهر ذلك منه أو خفى، ولا إثم عليه فى ذلك، وإن أفرط فيه ما لم يأت محرمًا، وذلك أن مغيثًا كان يتبع بريرة بعدما بانت منه فى سكك المدينة مبديًا لها ما يجده من نفسه من فرط الهوى وشدة الحب، ولو كان هذا قبل اختيارها نفسها لم يكن، عليه السلام، يقول لها‏:‏ ‏(‏لو راجعتيه‏)‏؛ لأنه لا يقال لامرأة فى حيال رجل وملكه بعصمة النكاح‏:‏ لو راجعتيه، وإنما يسئل المراجعة المفارق لزوجته، وإذا صح ذلك، فغير ملوم من ظهر منه فرط هوى امرأة يحل له نكاحها نكحته بعد ذلك أم لا، ما لم يأت محرمًا ولم يغش مأثمًا‏.‏

وفيه‏:‏ أنه من بانت منه زوجته بخلع أو فدية مما تكون المرأة فيه أولى بنفسها من زوجها ولا رجعة له عليها، أنه يجوز له خطبتها فى عدتها، ولا بأس على المرأة فى إجابته إلى ذلك؛ لأنه عليه السلام شفع إلى بريرة وخطبها على زوجها الذى بانت منه تصريح الخطبة التى هى محظورة فى العدة، ولو أن غيره كان الراغب فيها لما جاز له التصريح بالخطبة‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏ الآية

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ، قَالَ‏:‏ أن اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا أَعْلَمُ مِنَ الإشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا‏:‏ عِيسَى، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ‏.‏

وذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى حرم نكاح المشركات بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، ثم استثنى من هذه الجملة نكاح نساء أهل الكتاب، فأحلهن فى سورة المائدة فى قوله‏:‏ ‏(‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، وبقى سائر المشركات على أصل التحريم‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ روى هذا القول عن ابن عباس، وبه جاءت الآثار عن الصحابة والتابعين وأهل العلم بعدهم أن نكاح الكتابيات حلال، وبه قال مالك، والأوزاعى، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وعامة الفقهاء‏.‏

وقال غيره‏:‏ ولا يروى خلاف ذلك إلا عن ابن عمر أنه شذ عن جماعة الصحابة والتابعين، ولم يجز نكاح اليهودية والنصرانية، وخالف ظاهر قوله‏:‏ ‏(‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، ولم يلتفت أحد من العلماء إلى قوله‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ والمسلمون اليوم على الرخصة فى نساء أهل الكتاب، ويرون أن التحليل هو الناسخ للتحريم، فقد تزوج عثمان بن عفان بنائلة بنت الفرافصة الكلبية، وهى نصرانية، تزوجها على نسائه، وتزوج طلحة بن عبيد الله يهودية، وتزوج حذيفة يهودية وعنده حرتان مسلمتان، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه كان يأمر بالتنزه عنهن من غير أن يحرمهن‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا محمد بن يزيد، عن الصلت بن بهرام، عن شقيق بن سلمة، قال‏:‏ تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر‏:‏ أن خل سبيلها، فقال‏:‏ أحرام هى‏؟‏ فكتب إليه عمر‏:‏ لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهم، يعنى الزوانى، فيرى أن عمر ذهب إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

فنقول‏:‏ إن الله تعالى إنما شرط العفائف منهن، وهذه لا يؤمن أن تكون غير عفيفة، والذى عليه جماعة الفقهاء فى قوله‏:‏ ‏(‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، أن المراد بالآية تحريم الوثنيات والمجوسيات، وأنه لم ينسخ تحريمهن كتاب ولا سنة‏.‏

وشذ أبو ثور عن الجماعة، فأجاز مناكحة المجوس وأكل ذبائحهم، وهو محجوج بالجماعة والتنزيل، وأما الحربيات، فروى مجاهد، عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ لا يحل نكاح نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربًا، وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ الآية، وبه قال الثورى، واتفق مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعى، أن نكاح الحربيات فى دار الحرب حلال، إلا أنهم كرهوا ذلك من أجل أن المقام له ولذريته فى دار الحرب حرام عليه؛ لئلا يجرى عليه وعلى ولده حكم أهل الشرك‏.‏

واختلفوا فى نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى‏:‏ لا يحل نكاح أمة يهودية ولا نصرانية؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، قال‏:‏ فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات، وقال‏:‏ ‏(‏ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏، فقال مالك‏:‏ وإنما أحل نكاح الإماء المؤمنات ولم يحلل نكاح إماء أهل الكتاب‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا بأس بنكاح إماء أهل الكتاب؛ لأن الله قد أحل الحرائر منهن والإماء تبع لهن، والحجة عليهم نص التنزيل الذى احتج به مالك‏.‏

وأجمع أئمة الفتوى أنه لا يجوز وطء أمة مجوسية بملك اليمين، وأجاز ذلك طائفة من التابعين، وقالوا‏:‏ لأن سبى أوطاس وطئن ولم يسلمن، وقد تقدم رد هذا القول فى كتاب الجهاد، فأغنى عن إعادته‏.‏

باب نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النَّبِىِّ عليه السَّلام وَالْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا مُشْرِكِى أَهْلِ حَرْبٍ، يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَمُشْرِكِى أَهْلِ عَهْدٍ، لا يُقَاتِلُهُمْ وَلا يُقَاتِلُونَهُ، وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ، وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ، وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ ذلك فَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدُّوا وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ‏.‏

وقال عَطَاءٌ ‏[‏عَنِ‏]‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ كَانَتْ قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِى أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ، وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِى سُفْيَانَ، تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الْفِهْرِىِّ، فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُثْمانَ الثَّقَفِىُّ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إذا أسلمت المشركة وهاجرت إلى المسلمين، فقد وقعت الفرقة بإسلامها بينها وبين زوجها الكافر عند جماعة الفقهاء، ووجب استبراؤها بثلاث حيض، ثم بذلك تحل للأزواج، هذا قول مالك، والليث، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة ولها زوج كافر فى دار الحرب، فقد وقعت الفرقة ولا عدة عليها، وإنما عليها استبراء رحمها بحيضة، واعتل بأن العدة إنما تكون فى طلاق، وإسلامها فسخ وليس بطلاق، قالوا‏:‏ وهذا تأويل حديث ابن عباس‏:‏ أنه إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، أن المراد بذلك الاستبراء، وتأويل هذا عند مالك والليث ومن وافقهما ثلاث حيض؛ لأنها قد حصلت بالهجرة من جملة الحرائر المسلمات، ولا براءة لرحم حرة بأقل من ثلاث حيض‏.‏

وأكثر العلماء على أن زوجها إن هاجر مسلمًا قبل انقضاء عدتها أنه أحق بها، وسيأتى اختلافهم فى ذلك فى الباب بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

واتفقوا أن الأمة إذا سبيت أن استبراءها حيضة‏.‏

وأما قوله‏:‏ وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، فهذا فى أهل الحرب، وأما أهل العهد، فيرد إليهم الثمن عوضًا منهم؛ لأنهم لا يحل للمشركين تملك المسلمين، فيكون وزن الثمن فيهم من باب فداء أسرى المسلمين، وإنما لم يجز تملك العبد والأمة إذا هاجرا مسلمين من أجل ارتفاع العلة الموجبة لاسترقاق المشركين، وهى وجود الكفر فيهم، فإذا أسلموا قبيل القدرة عليهم وقبيل الغلبة لهم وجاءونا مسلمين، كان حكمهم حكم من هاجر من مكة إلى المدينة فى تمام حرمة الإسلام والحرية إن شاء الله‏.‏

باب إِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّىِّ أَوِ الْحَرْبِىِّ

وَقَالَ ابْنِ عَبَّاس‏:‏ إِذَا أَسْلَمَتِ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ‏.‏

وسُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِى الْعِدَّةِ، أَهِىَ امْرَأَتُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، إِلا أَنْ تَشَاءَ هِىَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَصَدَاقٍ‏.‏

وقال مُجَاهِدٌ‏:‏ إِذَا أَسْلَمَ فِى الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا‏.‏

قَالَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِى مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا‏:‏ هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا ‏[‏صَاحِبَهُ‏]‏ وَأَبَى الآخَرُ بَانَتْ لا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا‏.‏

وقال ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قُلْتُ لِعَطَاءٍ‏:‏ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ‏(‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ بَيْنَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ‏.‏

وقال مُجَاهِدٌ‏:‏ هَذَا كُلُّهُ فِى صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ‏(‏، فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ، قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ‏)‏، لا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلامِ، وَاللَّهِ مَا أَخَذَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ إِلا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، بِقَوْلِهِ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ‏:‏ قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلامًا‏.‏

الذى ذهب إليه ابن عباس وعطاء فى هذا الباب أن إسلام النصرانية قبل زوجها فاسخ لنكاحها؛ لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، فلم يخص وقت العدة من غيره‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إن الإسلام يعلو ولا يعلى، لا يعلو النصرانى المسلمة، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاوس، وإليه ذهب أبو ثور‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إذا أسلم فى العدة يتزوجها، هذا قول مجاهد، وقتادة، وبه قال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إذا أسلمت عرض على زوجها الإسلام، فإن أسلم فهما على نكاحهما، وإن أبى أن يسلم فرق الإمام بينهما، هذا قول الزهرى، والثورى، وبه قال أبو حنيفة إذا كان فى دار الإسلام، وأما إن كانا فى دار الحرب ثم أسلمت، ثم خرجت إلى دار الإسلام، فقد بانت منه بافتراق الدارين، وفيها قول آخر يروى عن عمر بن الخطاب أنه خير نصرانية أسلمت وزوجها نصرانى، إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت معه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والقول الأول عندى أصح الأقاويل‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وإليه أشار البخارى فى قوله‏:‏ ‏(‏لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، يعنى ما دام الزوج كافرًا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأجمع عوام أهل العلم على أن النصرانيين إذا أسلم الزوج قبل امرأته أنهما على نكاحهما، إذ جائز أنه يبتدئ نكاحها لو لم تكن له زوجة، وكذلك أجمعوا أنهما لو أسلما معًا أنهما على نكاحهما‏.‏

وأما قول الحسن وقتادة أن الوثنيين إذا أسلما معًا أنهما على نكاحهما، فهو إجماع من العلماء‏.‏

واختلفوا إذا سبق أحدهما الآخر بالإسلام، فقالت طائفة‏:‏ تقع الفرقة بإسلام من أسلم منهما، وقاله غير الحسن، وقتادة، وعكرمة، والحسن، وطاوس، وعطاء، ومجاهد‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إذا أسلم المتخلف منهما عن الإسلام قبل انقضاء عدة المرأة فهما على النكاح، هذا قول الزهرى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، ولم يراعوا من سبق بالإسلام إذا اجتمع إسلامهما فى العدة كما كان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما فى العدة، واحتج الشافعى بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل امرأته هند، وكان إسلامه بمر الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة، ثم أسلمت بعد أيام، فقرا على نكاحهما فى الشرك؛ لأن عدتها لم تنقض، وكذلك حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده، فكانا على نكاحهما‏.‏

وقال مالك والكوفيون‏:‏ إذا أسلم الرجل منهما قبل امرأته تقع الفرقة بينهما فى الوقت إذا عرض عليها الإسلام فلم تسلم‏.‏

واحتج مالك بقوله‏:‏ ‏(‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، فلا يجوز التمسك بعصمة المجوسية؛ لأن الله لم يرد بالكوافر فى هذه الآية أهل الكتاب، بدليل إباحة تزويج نساء أهل الكتاب، فلما كانت المجوسية غير جائز ابتداء العقد عليها، فكذلك لا يجوز التمسك بها؛ لأن ما لا يجوز ابتداء العقد عليه لا يجوز التمسك به إذا طرأ على النكاح، وذهب مالك إلى أنه إن أسلمت الوثنية قبل زوجها، فإن أسلم فى عدتها فهو أحق بها، وعند الكوفيين يعرض على الزوج الإسلام فى الوقت كما يعرض على المرأة إذا أسلمت، ولم يراعوا انقضاء عدة فيها‏.‏

واحتج مالك فى اعتبار العدة فى إسلام المرأة قبل زوجها بما رواه فى الموطأ عن ابن شهاب أنه قال‏:‏ لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب، إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضى عدتها، فهذا من جهة الأثر‏.‏

وأما من جهة القياس، فإن إسلامه بمنزلة الارتجاع، فلما كان له الارتجاع فى الطلاق، فكذلك إذا أسلم؛ لأن إسلامه فعلة والرجعة فعلة، فاشتبها لهذه العلة‏.‏

ولم تجب عند الكوفيين مراعاة العدة؛ لأن العدة إنما تكون فى طلاق، والكفر فرق بينهما وفسخ نكاحهما كالمرتد، ولم يعلموا الآثار التى عند أهل المدينة فى اعتبار العدة إذا أسلمت المرأة قبل زوجها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واحتج أهل المقالة الأولى فى أن النكاح يفسخ بالإسلام إذا أسلم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، قالوا‏:‏ فكل امرأة لا يجوز للمسلم ابتداء عقد نكاحها، فلا يجوز له أن يتمسك بذلك النكاح، ولا يرجع إليه فى عدة ولا غير عدة إلا بنكاح مستأنف؛ لأن الله إنما حرم على المشركين نكاح المسلمات، ونهى المسلمين عن نكاح المشركات، فكان ابتداؤه فى معنى استدامته‏.‏

وقول عطاء ومجاهد‏:‏ إذا جاءت امرأة من المشركين إلى المسلمين أنه لا يعطى زوجها المشرك عوض صداقها؛ لأن ذلك إنما كان فى عهد بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وعلى ذلك انعقد الصلح بينهم، ولو كان أهل حرب للنبى صلى الله عليه وسلم لم يجز رد شىء مما أنفقوا إليهم، وكذلك قال الشعبى فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن فاتكم شىء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 11‏]‏، قال‏:‏ هى منسوخة‏.‏

باب الإيلاء

وقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ‏)‏‏.‏

- قَالَ ابْن عُمَر فِى الإيلاءِ الَّذِى سَمَّى اللَّهُ‏:‏ لا يَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدَ الأجَلِ إِلا أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلاقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَىْ عَشَرَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام‏.‏

الإيلاء فى لغة العرب اليمين، وفى قراءة أبى بن كعب وابن عباس‏:‏ ‏(‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، قالا‏:‏ يقسمون‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ كل يمين منعت جماعًا فهى إيلاء‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ وهو قول كل من أحفظ عنه من أهل العلم‏.‏

واختلف فى إيلاء المذكور فى القرآن، قال ابن المنذر‏:‏ فروى عن ابن عباس‏:‏ لا يكون مؤليًا حتى يحلف ألا يمسها أبدًا‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ الإيلاء إنما هو إلى حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وأبى ثور، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن مؤليًا، وكان هذا عندهم يمينًا محضًا لو وطئ فى هذه اليمين حنث ولزمته الكفارة، وإن لم يطأ حتى تنقضى المدة لم يكن عليه شىء كسائر الأيمان‏.‏

وقال الثورى والكوفيون‏:‏ الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدًا، وهو قول عطاء‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إذا حلف ألا يقرب امرأته يومًا أو أقل أو أكثر، ثم لم يطأها أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روى هذا عن ابن مسعود، والنخعى، وابن أبى ليلى، والحكم، وبه قال إسحاق، واعتل أهل هذه المقالة، فقالوا‏:‏ إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر فقد صار مؤليًا، ولزمه أن يفىء بعد التربص أو يطلق؛ لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود فى المدة القصيرة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأنكر هذا القول أكثر أهل العلم، وقالوا‏:‏ لا يكون الإيلاء أقل من أربعة أشهر‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء، وليس فى حديث أنس إيلاء بأربعة أشهر، وإنما فيه أنه، عليه السلام، حلف ألا يجامع نساءه شهرًا، فبر يمينه ونزل لتمامه‏.‏

واحتج الكوفيون، فقالوا‏:‏ جعل الله التربص فى الإيلاء أربعة أشهر، كما جعل فى عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، وفى عدة الطلاق ثلاثة قروء، فلا تربص بعدها، قالوا‏:‏ فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفىء وهو الجماع فى داخل المدة والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر‏.‏

واحتج أصحاب مالك، فقالوا‏:‏ جعل الله للمؤلى تربص أربعة أشهر، فهى له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل وتقدير الكوفيين للآية‏:‏ فإن فاءوا فيهن، وتقدير المدنيين‏:‏ فإن فاءوا بعدهن‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ لا يخلو التخيير الذى جعل للمؤلى فى الفىء أو الطلاق أن تكون فى الأربعة الأشهر أو بعدها، فإن كان فى الأربعة الأشهر فقد نقصوه من الأجل الذى ضربه الله له، وإن قالوا‏:‏ بعد الأربعة الأشهر، وهو ظاهر كتاب الله صاروا إلى قولنا، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن ‏(‏إلى‏)‏ بالمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏، فلا يجوز لها أن تعمل فى نفسها شيئًا بالمعروف، وهو التزويج، إلا بعد تمام الأجل الذى ضربه الله لها، وكل من أجل له أجل فلا سبيل عليه فى الأجل، وإنما عليه السبيل بعد الأجل، فنحن وهم مجمعون على صاحب الدين أنه كذلك، وعلى العنيين إذا ضرب له أجل سنة أنه لا سبيل عليه قبل تقضى السنة، فإن وطئ من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه حكم العنيين وإن انقضت السنة ولم يطأ فرق بينه وبين امرأته، فكذلك المؤلى لا سبيل عليه فى الأربعة الأشهر، فإن وطئ فيها من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه الإيلاء، وإن لم يطأ حتى انقضت أخذه الحاكم بالطلاق، فإن لم يطلق فرق بينهما الحاكم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأجمع كل من نحفظ عنه العلم أن الفىء هو الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر فيجزئه فيؤه بلسانه وقلبه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إذا أشهد على فيئه فى حال العذر أجزأه‏.‏

وخالف الجماعة سعيد بن جبير، فقال‏:‏ الفىء الجماع، لا عذر له إلا أن يجامع وإن كان فى سفر أو فى سجن، وأوجب أكثر أهل العلم الكفارة عليه إذا فاء بجماع امرأته، وروى هذا عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول النخعى، وابن سيرين، ومالك، والثورى، والكوفيين، والشافعى، وعامة العلماء‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إذا فاء فلا كفارة عليه، هذا قول الحسن، وقال النخعى‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ إذا فاء فلا كفارة عليه‏.‏

وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ قال بعض أهل التأويل فى قوله‏:‏ ‏(‏فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏، يعنى اليمين الذى حنثوا فيها، وهو مذهب فى الأيمان لبعض التابعين، فمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله، فإنه يفعله ولا كفارة عليه، وهو ضعيف ترده السنة الثابتة عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذى هو خير وليكفر يمينه‏)‏‏.‏

وما ذكره البخارى عن ابن عمر، أن المؤلى يوقف حتى يطلق، وذكره عن اثنى عشر رجلاً من الصحابة، منهم عثمان، وعلى، وذكره ابن المنذر، عن عمر، وعثمان، وعلى، وعائشة، وابن عمر، وأبى الدرداء‏.‏

وقال سليمان بن يسار‏:‏ كان تسعة عشر رجلاً من أصحاب النبى، عليه السلام، يوقفون فى الإيلاء‏.‏

قال مالك‏:‏ وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، فإن طلق فهى واحدة رجعية، إلا أن مالكًا قال‏:‏ لا تصح رجعته حتى يطأ فى العدة، ولا أعلم أحدًا قاله غيره‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إذا مضت للمؤلى أربعة أشهر بانت منه امرأته دون توقيف بطلقة بائنة لا يملك فيها الرجعة، وروى عن ابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ورواية عن عثمان، وعلى، وابن عمر، ذكرها ابن المنذر، وهو قول عطاء، والنخعى، ومسروق، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب الأوزاعى، والثورى، وجماعة الكوفيين‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ هى طلقة يملك فيها الرجعة إذا مضت أربعة أشهر، روى عن سعيد ابن المسيب، وأبى بكر بن عبد الرحمن، ومكحول، والزهرى‏.‏

والصواب أن يوقف المؤلى؛ لأن الله جعل له تربص أربعة أشهر لا يطالب فيها بالوطء، وجعله بعدها مخيرًا فى الفىء بالجماع أو إيقاع الطلاق؛ لقوله‏:‏ ‏(‏فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏، فمن خيره الله فى أمر، فلا سبيل للافتئات عليه فيه، ودفع ما جعله الله له من دون إذنه‏.‏

قال الأبهرى‏:‏ والحجة لقول مالك أنه إذا لم يطأ فى العدة، فلا تصح رجعته، لأن الطلاق إنما أوقع لرفع الضرر، فإذا لم يطأ فالضرر قائم، فلا معنى للرجعة، ومنى ارتجع كانت رجعته معتبرة بالوطء، فإن وطئ وإلا علم أنه لم تكن له رجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته؛ لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر، وإنما من أجل العذر‏.‏

باب حُكْمِ الْمَفْقُودِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ

وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ‏:‏ إِذَا فُقِدَ فِى الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً، وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً، وَالْتَمَسَ صَاحِبَهَا سَنَةً، فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ فَأَخَذَ يُعْطِى الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ عَنْ فُلانٍ، فَإِنْ أَتَى فُلانٌ فَلِى وَعَلَىَّ، وَقَالَ‏:‏ هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الأسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ‏:‏ لا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَلا يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ، فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ‏.‏

- وفيه‏:‏ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِىَ لَكَ أَوْ لأخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ‏)‏، وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإبِلِ، فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا لَكَ وَلَهَا‏؟‏ مَعَهَا الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ، تَشْرَبُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا‏)‏، وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِلا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى حكم المفقود إذ لم يعرف مكانه وعمى خبره، فقالت طائفة‏:‏ إذا خرج من بيته وعمى خبره، فإن امرأته لا تنكح أبدًا، ولا يفرق بينه وبينها حتى توقن بوفاته أو ينقضى تعميره، وسبيل زوجته سبيل ماله، روى هذا القول عن على بن أبى طالب، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ومحمد، والشافعى، وإليه ذهب البخارى، والله أعلم؛ لأنه بوب باب حكم المفقود فى أهله وماله، وذكر حديث اللقطة والضالة، ووجه الاستدلال فى ذلك أن الضالة إذا وجدت ولم يعلم ربها، فهى فى معنى المفقود؛ لأنه لا يعلم من هو، ولا أين هو، فلم يزل الجهل به وبمكانه ملكه عن ماله، وبقى محبوسًا عليه، فكذلك يجب أن تكون عصمته باقية على زوجته لا يحلها إلا يقين موته أو انقضاء تعميره، وهذه الزوجية قد ثبتت بالكتاب والسنة والاتفاق، ولا تحل إلا بيقين مثله‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تتربص امرأته أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم تحل للأزواج، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وابن عمر، وعطاء بن أبى رباح، وإليه ذهب مالك وأهل المدينة، وبه قال أحمد، وإسحاق‏.‏

واحتج ابن المنذر لهم، فقال‏:‏ اتباع خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى‏.‏

قال‏:‏ وقد دفع أحمد بن حنبل ما روى عن على بن أبى طالب من خلاف هذا القول، وقال‏:‏ إن راويه أبا عوانة، ولم يتابع عليه‏.‏

فكما وجب تأجيل العنين تقليدًا لعمر وابن مسعود، كذلك وجب تأجيل امرأة المفقود؛ لأن العدد الذين قالوا بالتأجيل أكثر وهم أربعة من الخلفاء، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى‏)‏‏.‏

واختلفوا إذا فقد فى الصف عند القتال، فقال ابن المسيب‏:‏ تؤجل امرأته سنة، وروى أشهب عن مالك أنه يضرب لامرأته أجل سنة بعد أن ينظر فى أمرها، ولا يضرب لها من يوم فقد، وسواء فقد فى الصف بين المسلمين أو فى قتال المشركين، وروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالك، إذا فقد فى المعترك أو فتن المسلمين بينهم أنه ينتظر يسيرًا بمقدار ما ينصرف المنهزم، ثم تعتد امرأته ويقسم ماله‏.‏

وروى ابن القاسم، عن مالك فى المفقود فى فتن المسلمين أنه يضرب لامرأته سنة ثم تتزوج، واحتج المهلب لهذا القول بحديث اللقظة؛ لأنه حكم فيها عليه السلام بتعريف سنة‏.‏

وقال الكوفيون، والثورى، والشافعى فى الذى يفقد بين الصفين كقولهم فى المفقود‏:‏ لا يفرق بينهما، واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى فى الأسير لا يستبين موته أنه لا يفرق بينه وبين امرأته، ويوقف ماله وينفق منه عليها‏.‏

قال الأبهرى‏:‏ والفرق بين الأسير والمفقود أن الأسير غير مختار لترك الرجوع إلى زوجته، ولا قاصد لإدخال الضرر عليها، فلم يجز دفع نكاحه، وهو كالذى لا يقدر على الوطء لعلة عرضت له، والمفقود فغير معذور بالتأخير عن زوجته، إذ لا سبب له ظاهر يمنعه من ذلك، وحكم زوجة الأسير فى النفقة عليها من ماله كامرأة المفقود؛ لأنا نقدر أن نوصلها إلى حقها من النفقة، سواء غاب أو حضر، ولا خلاف أنه لا يفرق بين الأسير وزوجته حتى يصح موته أو فراقه‏.‏

ومالك يعمر الأسير الذى تعرف حياته وقتًا، ثم ينقطع خبره فلا يعرف له موت، يعمره ما بين السبعين إلى الثمانين، وكذلك يعمر المفقود بين الصفين والمفقود الذى فقد فى غير الحرب، يعمره كذلك أيضًأ فى قسمة ماله وميراثه، والكوفيون يقولون‏:‏ لا يقسم ماله حتى يأتى عليه من الزمان ما لا يعيش مثله، وهذا يشبه قول مالك، وقال الشافعى‏:‏ لا يقسم ماله حتى تعلم وفاته‏.‏

باب الظِّهَارِ

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏ الآية وسَأَلَ مالك ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ، فَقَالَ‏:‏ نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ‏.‏

فَقَالَ مَالِكٌ‏:‏ وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ ظِهَارُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ مِنَ الْحُرَّةِ وَالأمَةِ سَوَاءٌ‏.‏

وقال عِكْرِمَةُ‏:‏ إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنَ النِّسَاءِ، وَفِى الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَىْ فِيمَا قَالُوا- وَفِى بَعْضِ مَا قَالُوا- وَهَذَا أَوْلَى؛ لأنَّ اللَّهَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ اختلف العلماء فى كفارة الظهار بماذا تجب‏؟‏ على قولين، فقال قوم‏:‏ إنها تجب بمجرد الظهار، وليس من شرطها العود، روى هذا عن مجاهد، وبه قال سفيان الثورى‏.‏

وذهب جماعة الفقهاء إلى أنها تجب بشرطين، وهما‏:‏ الظهار والعود‏.‏

واختلف هؤلاء فى العود على مذاهب، فقال مالك‏:‏ العود هو العزم على الوطء، وحكى عنه أنه الوطء بعينه، ولكن تقدم الكفارة عليه، وهذا قول ابن القاسم، وأشار فى الموطأ إلى أنه العزم على الإمساك والإصابة، وعليه أكثر أصحابه، وحكاه ابن المنذر، عن أبى حنيفة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وذهب الحسن البصرى، وطاوس، والزهرى، أن العود الوطء نفسه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ومعنى العود عند أبى حنيفة‏:‏ ألا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها‏.‏

وعند الشافعى العود أن يمكنه طلاقها بعد الظهار بساعة فلا يطلقها، فإن أمسكها ساعة ولم يطلقها عاد لما قال، ووجبت عليه الكفارة ماتت أو مات، وعباراتهم وإن اختلفت فى العود فمعناها متقارب‏.‏

وقال أهل الظاهر‏:‏ العود أن يقول‏:‏ أنت كظهر أمى، ثانية، وروى هذا القول عن بكير بن الأشج‏.‏

واحتج من قال‏:‏ إن الكفارة تجب بمجرد الظهار بأن الله ذكر الكفارة وعلل وجوبها، فقال‏:‏ ‏(‏وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏، فدل أنها وجبت بمجرد القول، قالوا‏:‏ لأن العود الذى هو إحدى الروايتين العزم على الإمساك، والرواية الثانية العزم على وطئها‏.‏

قال ابن الجلاب‏:‏ وقد ذكر فى الموطأ الأمرين جميعًا، ونقيض ذلك الخلاف أن إيراد كل واحد منهما بالعزم عودة العزم على وطئها فمباح، والمباح لا تجب فيه الكفارة‏.‏

وحجة الجماعة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يظاهرون من نسائهم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 3‏]‏ الآية، فأوجب الكفارة بالظهار والعود جميعًا، فمن زعم أنها تجب بشرط واحد، فقد خالف الظاهر، وهذا بمنزلة قول القائل‏:‏ من دخل الدار فصلى فله دينار، فإنه لا يستحق الدينار إلا بدخوله وصلاته؛ لأنهما شرطان فى استحقاق الدينار، فلا يجوز أن يستحق الدينار بأحد الشرطين، والكلام على الشافعى أن العود هو الإمساك فقط‏.‏

والدليل على بطلان ذلك، أن الذى كان مباحًا بالعقد هو الوطء، فإذا حرمه بالظهار كانت الكفارة له دون ما سواه؛ لأن الأنكحة إنما وضعت له فقط، ولما ثبت أنه لا يجوز أن يطأ حتى يكفر، وجب أن يكون العود هو العزم على الإمساك وعلى الوطء جميعًا، ولو كأن الإمساك حتى يكون العود إليه راجعًا، لكان طلاقًا؛ لأن الإمساك إذا حرم ارتفع العقد، وما يرفع النكاح إنما هو الطلاق، ولو كان الظهار كذلك، لكانت الكفارة لا تدخله ولا تصلحه؛ لأن الفراق لا يرتفع حكمه بالكفارة، ولما صح ذلك ثبت أن الكفارة تبيح العود إلى ما حرمه الظهار من الوطء والعزم عليه، ألا ترى أنه إذا حلف ألا يطأها فقد حرم وطأها دون إمساكها، فإذا فعل الوطء، فقد خالف ما حرمته اليمين، فكذلك الظهار، ومن ظاهر فإنما أراد الإمساك دون الطلاق، فكذلك لم يكن العود هو الإمساك‏.‏

واحتج أهل الظاهر بأن قالوا‏:‏ كل موضع ذكر الله تعالى فيه العود للشىء، فالمراد به العود إليه بعينه، ألا ترى أنه أخبر عن الكفار أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏، فكذلك قوله‏:‏ ‏(‏ثم يعودون لما قالوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏، فيقال لهم‏:‏ العود فى الشىء يكون فى اللغة بمعنى المصير إليه كما تأولتم، ويكون أيضًا بمعنى الرجوع فيه كما قال‏:‏ ‏(‏العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه‏)‏، أراد به الناقض لهبته، وهذا تفسير الفراء فى العود المذكور فى الآية أنه الرجوع فى قولهم وعن قولهم‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ ولو كان معنى قوله‏:‏ ‏(‏ثم يعودون لما قالوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏، أى يلفظوا بالظهار مرة أخرى لما وقع بعده،‏)‏ فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 3‏]‏؛ لأنه لم يذكر للمسيس سبب، فيقال من أجله‏:‏ ‏(‏من قبل أن يتماسا ‏(‏، وإنما ذكر التظاهر وهو ضد المسيس، والمظاهر إنما حرم على نفسه المسيس، فكيف يقال له‏:‏ إذا حرمت على نفسك المسيس، ثم حرمت على نفسك المسيس فأعتق رقبة قبل أن تمس‏؟‏ هذا كلام واه ضعيف‏.‏

ولو قال رجل لرجل‏:‏ إذا لم ترد أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس نسبة الناس إلى الجهل، ولو قال‏:‏ إذا أردت أن تمس فاعتق رقبة قبل أن تمس كان كلامًا صحيحًا مفهومًا أنه لا تجب الكفارة حتى يريد المس، وأيضًا فإن الظهار كان طلاق الجاهلية، تعلق عليه حكم التكفير بشرط العود والرجوع فيه، ألا ترى أن الكفارة إذا وجبت باللفظ وشرط آخر كان ذلك الشرط مخالفة اللفظ لا إعادته كالأيمان‏.‏

وأجمع العلماء أن الظهار للعبد لازم له كالحر، وأن كفارته الصوم شهران، واختلفوا فى الإطعام والعتق، فقال الكوفيون والشافعى‏:‏ لا يجزئه إلا الصوم خاصة‏.‏

وقال ابن القاسم، عن مالك‏:‏ إن أطعم بإذن مولاه أجزأه، وإن أعتق بإذنه لم يجزئه، وأحب إلينا أن يصوم، يعنى شهرين كالحر‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ ولا أرى هذا الجواب إلا وهم منه؛ لأنه إذا قدر على الصوم لم يجزئه الإطعام فى الحر كيف العبد، وعسى أن يكون جواب هذه المسألة فى كفارة اليمين بالله‏.‏

وقال الحسن‏:‏ إن أذن له مولاه فى العتق أجزأه‏.‏

وعن الأوزاعى‏:‏ إن أذن له مولاه فى العتق والإطعام أجزأه إذا لم يقدر على الصيام‏.‏

واختلفوا فى الظهار من الأمة وأم الولد، فقال الكوفيون والشافعى‏:‏ لا يصح الظهار منهما‏.‏

وقال مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث‏:‏ يكون من أمته مظاهرًا، واحتج الكوفيون بقوله‏:‏ ‏(‏والذين يظاهرون منكم من نسائهم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 3‏]‏، والأمة ليست من نسائنا؛ لأن الظهار كان طلاقًا، ثم أحل بالكفارة، فإذا كان لا حظ للإماء فى الطلاق، فكذلك ما قام مقامه‏.‏

ومن أوجب الظهار فى الإماء جعلهن داخلات فى جملة النساء لمعنى تشبيه الفرج الحلال بالفرج الحرام فى حال الظهار؛ لأن الله حرم جميع النساء، ولم يخص امرأة دون امرأة، وهذا مذهب على بن أبى طالب، وهو حجة فى معرفة لسان العرب، وهو مذهب الفقهاء السبعة، وعطاء، وربيعة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ يدخل فى عموم قوله‏:‏ ‏(‏والذين يظاهرون منكم من نسائهم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏، أن الظهار يكون من الأمة والذمية والصغيرة وجميع النساء‏.‏

وقول البخارى‏:‏ فى العربية لما قالوا، أى فيما قالوا، فقد تقدم فى الباب أنه قول الفراء، وفيها قول ثان قاله الأخفش، قال‏:‏ المعنى على التقديم والتأخير، أى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، فتحرير رقبة لما قالوا، وهذا قول حسن، وفيها وجه آخر‏:‏ يجوز أن تكون ما بمعنى من، كأنه قال‏:‏ ثم يعودون لمن قالوا فيهن أو لهن‏:‏ أنتن علينا كظهور أمهاتنا، وفيها وجه آخر‏:‏ يجوز أن تكون ما بمعنى مع، قالوا بتقدير المصدر، فيكون التقدير‏:‏ ثم يعودون للقول، فسمى القول فيهن باسم المصدر، وهذا القول كما قالوا‏:‏ ثوب نسج اليمن، ودرهم ضرب الأمير، وإنما هو منسوج اليمن، ومضروب الأمير‏.‏

باب الإِشَارَةِ فِى الطَّلاقِ وَالأُمُورِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا‏)‏، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ‏.‏

وقال كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ‏:‏ أَشَارَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَىَّ، خُذِ الشطر‏.‏

وقالتْ أَسْمَاءُ‏:‏ صَلَّى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى الْكُسُوفِ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ‏:‏ مَا شَأْنُ النَّاسِ‏؟‏ وَهِىَ تُصَلِّى، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ‏:‏ آيَةٌ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، أَنْ نَعَمْ‏.‏

وقال أَنَسٌ‏:‏ أَوْمَأَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى أَبِى بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَوْمَأَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ‏:‏ ‏(‏لا حَرَجَ‏)‏‏.‏

وقال أَبُو قَتَادَةَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فِى الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ‏:‏ ‏(‏أحَدٌ مِنْكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ‏؟‏‏)‏، قَالُوا‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَكُلُوا‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاسٍ، طَافَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ‏.‏

وقالتْ زَيْنَبُ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فُتِحَ مِنْ ‏[‏رَدْمِ‏]‏ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ‏)‏‏.‏

وفى هذا الباب أحاديث أخر فيها كلها إشارة النبى صلى الله عليه وسلم بيده‏.‏

قال المهلب‏:‏ الإشارة إذا فهمت وارتفع الإشكال بها محكوم بها، وما ذكره البخارى فى الأحاديث من الإشارات فى الضروب المختلفة شاهدة بجواز ذلك، وأوكد الإشارات ما حكم النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر السوداء حين قال لها‏:‏ ‏(‏أين الله‏؟‏‏)‏، فأشارت بيدها إلى السماء، فقال‏:‏ ‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏، فأجاز الإسلام بالإشارة الذى هو أصل الديانة، الذى يحقن به الدماء ويمنع المال والحرمة، وتستحق به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة فى سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء‏.‏

روى ابن القاسم، عن مالك، أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه، وقال الشافعى فى الرجل يمرض فيختل لسانه‏:‏ فهو كالأخرس فى الرجعة والطلاق، وإذا أشار إشارة تعقل أو كتب لزمه الطلاق‏.‏

وقال أبو ثور فى إشارة الأخرس‏:‏ إذا فهمت عنه تجوز عليه‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ إن كانت إشارته تعرف فى طلاقه ونكاحه وبيعه، وكان ذلك منه معروفًا فهو جائز عليه، وإن شك فيه فهو باطل، وليس ذلك بقياس إنما هو استحسان، والقياس فى هذا أنه كله باطل؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فزعم أبو حنيفة أن القياس فى ذلك أنه باطل، وفى ذلك إقرار منه أنه حكم بالباطل؛ لأن القياس عنده حق، فإذا حكم بضده وهو الاستحسان فقد حكم بضد الحق، وفى إظهاره القول بالاستحسان وهو ضد القياس دفع منه للقياس الذى هو عنده حق‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأظن البخارى حاول فى هذا الباب الرد عليه؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم حكم بالإشارة فى هذه الأحاديث وجعل ذلك شرعًا لأمته، ومعاذ الله أن يحكم، عليه السلام، فى شىء من شريعته التى ائتمنه الله عليها، وشهد له التنزيل أنه قد بلغها لأمته غير ملوم، وأن الدين قد كمل به بما يدل القياس على إبطاله، وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التى جاءت بجواز الإشارات فى أحكام مختلفة من الديانة فى مواضع يمكن النطق فيها ومواضع لا يمكن، فهى لمن لا يمكنه النطق أجوز وأوكد، إذ لا يمكن العمل بغيرها، وفى أحاديث هذا الباب فى قصة اليهودى الذى رضخ رأس الجارية فأخذ أوضاحًا لها، قال صاحب العين‏:‏ الوضح حلى من فضة‏.‏

وقوله فى حديث المنفق والبخيل‏:‏ مادت، قال صاحب العين‏:‏ ماد الشىء مددًا، تردد فى عرض، والناقة تمدد فى سيرها‏.‏

باب اللِّعَانِ

وَقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ‏(‏إِلَى‏:‏ ‏(‏الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6- 9‏]‏‏.‏

فَإِذَا قَذَفَ الأخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِإِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَدْ أَجَازَ الإشَارَةَ فِى الْفَرَائِضِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ‏.‏

وقال اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 29‏]‏، وَقَالَ الضَّحَّاكُ‏:‏ ‏{‏إِلا رَمْزًا‏}‏‏:‏ إِلا إِشَارَةً‏.‏

وقال بَعْضُ النَّاسِ‏:‏ لا حَدَّ وَلا لِعَانَ‏.‏

ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الطَّلاقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ‏:‏ الْقَذْفُ لا يَكُونُ إِلا بِكَلامٍ، قِيلَ لَهُ‏:‏ كَذَلِكَ الطَّلاقُ لا يَجُوزُ إِلا بِكَلامٍ، وَإِلا بَطَلَ الطَّلاقُ وَالْقَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الأصَمُّ يُلاعِنُ‏.‏

وقال الشَّعْبِىُّ وَقَتَادَةُ‏:‏ إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبِينُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ الأخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ‏.‏

وقال حَمَّادٌ‏:‏ الأخْرَسُ وَالأصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنْصَارِ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو عَبْدِالأشْهَلِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو سَاعِدَةَ‏)‏، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ‏:‏ فَقَبَضَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كَالرَّامِى بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَفِى كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ خَيْرٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْل، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ- أَوْ كَهَاتَيْنِ- وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاَثًا‏)‏- يَعْنِى ثَلاثِينَ- ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاًثًا‏)‏- يَعْنِى تِسْعًا وَعِشْرِينَ- يَقُولُ‏:‏ مَرَّةً ثَلاثِينَ وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، قَالَ‏:‏ أَشَارَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ‏:‏ ‏(‏الإيمَانُ هَا هُنَا مَرَّتَيْنِ، أَلا وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِى الْفَدَّادِينَ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سهل‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى لعان الأخرس وقذفه، فقال مالك، وأبو ثور‏:‏ يلاعن الأخرس إذا عقل الإشارة، وفهم الكتابة، وعلم ما يقوله، وفهم منه، وكذلك الخرساء تلاعن أيضًا بالكتاب‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ لا يصح قذفه ولا لعانه، فإذا قذف الأخرس امرأته بإشارة لم يحد ولم يلاعن، وكذلك لو قذف بكتاب، وروى مثله عن الشعبى، وبه قال الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأن هذه المسألة مبنية لهم على أصل، وهو أن صحة القذف تتعلق بصريح الزنا دون معناه، ألا ترى أن من قذف آخر، فقال له‏:‏ قد وطئت وطئًا حرامًا ووطئت بلا شبهة، لم يكن قاذفًا، فإن أتى بمعنى الزنا كان قاذفًا، فبان أن المعتبر فى هذا الباب صريح اللفظ، وهذا المعنى لا يحصل من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفًا ولا يتميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة‏.‏

وأيضًا فإن إشارته لما تضمنت وجهين لم يجز إيجاب الحد بها كالكتابة والتعريض، قالوا‏:‏ واللعان عندنا شهادة، وشهادة الأخرس عندنا لا تقبل بالإجماع‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فيقال لهم‏:‏ قولكم‏:‏ إن القذف لا يصح إلا بالتصريح، فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فإنها كلها قائمة مقام العربية، ويصح بكل واحد منها القذف، فكذلك إشارة الأخرس، وقولهم‏:‏ إنه لا يتميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة، فإنه باطل، إذا أقر بقتل عمد، فإنه مقبول منه بالإشارة وصورته غير صورة قتل الخطأ، وما حكموه من الإجماع فى شهادة الأخرس فهو غلط، وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة فلا تقع منه إلا باللفظ، وعلى أنهم يصححون لعان الأعمى ولا يجيزون شهادته، فقد فرقوا بين الشهادة واللعان‏.‏

واحتج ابن القصار بأن إشارة الأخرس إذا فهمت قامت مقام النطق بما احتج به البخارى من قوله‏:‏ ‏(‏فأشارت إليه‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 29‏]‏، يعنى مريم، فعرفوا بإشارتها ما يعرفونه من نطقها، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 41‏]‏، أى إيماء وإشارة، فلولا أنه يفهم منها ما يفهم من النطق لم يقل تعالى‏:‏ ألا تكلمهم إلا رمزًا، فجعل الرمز كلامًا، وأيضًا فإن النبى، عليه السلام، كبر للصلاة وذكر أنه لم يغتسل، فأشار إليهم أن اثبتوا مكانكم، وكذلك أشار إلى أبى بكر فى الصلاة، والأحاديث فى هذا أكثر من أن تحصى، فصح أنه يعقل من الإشارة ما يعقل من النطق‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقد تكون الإشارة فى كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله، عليه السلام‏:‏ ‏(‏بعثت أنا والساعة كهاتين‏)‏، ومتى كان يبلغ البيان إلى ما بلغت إليه الإشارة، والإعراب بما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة، وفى إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل أن الإشارة قد تكون فى بعض المواضع أقوى من الكلام‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغى أن يكون القذف مثل ذلك‏.‏

واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى، أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ إذا كان رجل أصمت أيامًا، فكتب لم يجز من ذلك شىء‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض بالمرض ونحوه يومًا أو نحوه مخالف للعجز الميئوس معه الجماع نحو الجنون فى باب خيار المرأة فى الفرقة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما الأصم، فإن فى أمره بعض إشكال، ولكن قد يستبين إشكال أمره بترداد الإشارة على الشىء حتى يرتفع الإشكال، فإن فهم عنه ذلك جاز جميع ما أشار به، وأما المتكلم فإذا كتب الطلاق بيده فله أن يقول‏:‏ إنما كتبته مراوضًا لنفسى لأستخير الله تعالى فى إنفاذه؛ لأن لى درجة فى البيان بلسانى هى غايتى، فلا يحال بينى وبين غاية ما لى من البيان، والأخرس لا غاية له إلا الإشارة‏.‏

باب إِذَا عَرَّضَ بِنَفْىِ الْوَلَدِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ لِى غُلامٌ أَسْوَدُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ‏)‏‏؟‏ قَالَ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا أَلْوَانُهَا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ حُمْرٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَأَنَّى ذَلِكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَعَلَّ عرقًا نَزَعَهُ، قَال‏:‏ ‏(‏فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ‏)‏‏.‏

احتج بهذا الحديث الكوفيون والشافعى، فقالوا‏:‏ لا حد فى التعريض، ولا لعان بالتعريض؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يوجب على هذا الرجل الذى عرض له بامرأته حدا‏.‏

وأوجب مالك الحد فى التعريض واللعان بالتعريض إذا فهم منه من القذف ما يفهم من التصريح‏.‏

وقال أصحابه فى تأويل هذا الحديث للكوفيين‏:‏ لا حجة لكم فيه؛ لأن الرجل لم يرد بتعريضه القذف وإنما جاء سائلاً مستشيرًا، ودليل ذلك فى الحديث، وذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم لما ضرب له المثل سكت، ورأى أن الحق فيما ضرب له النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ فالتعريض إذا لم يكن على سبيل المشاتمة والمواجهة، وكان على سبيل السؤال عما يجهل من المشكلات، فلا حد فيه، ولو وجب فى هذا حد، لبقى شىء من علم الدين لا سبيل إلى التوصل إليه من ذكر من عرض له فى ذلك عارض، ولا يجب عند مالك فى التعريض حد إلا أن يكون على سبيل مشاتمة ومواجهة يعلم قصده لذلك‏.‏

وسيأتى اختلاف العلماء وبيان مذاهبهم فى التعريض فى كتاب الحدود، إن شاء الله‏.‏

قال أبو عبيد، عن الأصمعى‏:‏ إذا كان البعير أسود يخالط أسوده بياض كدخان الرمث، فذلك الورقة‏.‏

باب إِحْلافِ الْمُتلاعِنِين

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا‏.‏

قوله‏:‏ باب إحلاف المتلاعنين، يريد أيمان اللعان المعروفة ومعناه‏:‏ أن الرجل لما قذف امرأته كان عليه الحد إن لم يأت بأربعة شهداء، يشهدون بتصديق ما قال، على ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏، فلما رمى العجلانى زوجته بالزنا أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏ الآية، فأخرج الله الزوج من عموم الآية وأقام أيمانه الأربع مع الخامسة مقام الشهود الأربعة يدرأ بها عن نفسه الحد كما يدرأ سائر الناس عن أنفسهم بالشهود الأربعة حد القذف، فإذا حلف بها لزم المرأة الحد إن لم تلتعن، فإن التعنت وحلفت دفعت الحد عن نفسها بأيمانها أيضًا كما دفع الرجل بأيمانه عن نفسه‏.‏

باب يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلاعن

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَجَاءَ فَشَهِدَ وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ‏)‏‏؟‏ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ‏.‏

أجمع العلماء أن الرجل يبدأ باللعان قبل المرأة؛ لأن الله تعالى بدأ بذلك، وإن بدأت المرأة قبل زوجها لم يجزئها ذلك وإعادة الأيمان بعده على ما رتبه الله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم فى حديث ابن عباس‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفيه دليل أنهما يتلاعنان وهما قائمان‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى استحلافه، عليه السلام، المتلاعنين قائمين الدليل الواضح على أنه ينبغى لكل حاكم من حكام المسلمين أن يستحلف كل من أراد استحلافه على عظيم من الأمر قائمًا للأخبار الواردة عن النبى صلى الله عليه وسلم بذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه دليل أن المحتلفين المتضارين اللذين لا يكون الحق إلا فى قول واحد منهما يعتدان فى دعاويهما ولا يعاقب كل واحد منهما بتكذيب صاحبه وإبطال قوله؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم عذر المتلاعنين فى الحدود ولم يقم الحد بالتحالف‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ الصحيح أن القاذف لزوجته عويمر وهلال بن أمية خطأ، وقد روى القاسم، عن ابن عباس، أن العجلانى قذف امرأته كما روى ابن عمر، وسهل بن سعد، وأظنه غلط من هشام بن حسان، ومما يدل على أنها قصة واحدة توقف النبى صلى الله عليه وسلم فيها حتى أنزل الله فيها الآية، ولو أنها قضيتان لم يتوقف عن الحكم فيها ولحكم فى الثانية بما أنزل الله فى الأولى‏.‏

قال الطبرى‏:‏ يستنكر قوله فى الحديث‏:‏ هلال بن أمية، وإنما القاذف عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن العجلانى شهد أحد مع النبى، عليه السلام، رماها بشريك ابن السحماء والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها، وهو شريك بن عبدة بن الجد بن العجلانى، كذلك كان يقول أهل الأخبار، وكانت هذه القصة فى شعبان سنة تسع من الهجرة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة‏.‏

باب اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ

- فيه‏:‏ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأنْصَارِىِّ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ‏؟‏ سَلْ لِى يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبَرَ عَلَى عَاصِم مَا سَمَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ، جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ‏:‏ لَمْ تَأْتِنِى بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِى سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ‏:‏ وَاللَّهِ لا أَنْتَهِى حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِى صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا‏)‏، قَالَ سَهْلٌ‏:‏ فَتَلاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِمَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ‏:‏ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ‏.‏

فى قول عويمر‏:‏ أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه‏؟‏ وسكوت النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يقل له‏:‏ لا نقتله، دليل على أن من قتل رجلاً وجده مع امرأته أنه يقتل به إن لم يأت ببينة تشهد بزناه بها‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وبذلك حكم على بن أبى طالب إن لم يأت بأربعة شهداء، فليعط برمته‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد روى عن عمر وعثمان أنهما أهدرا دمه، قيل‏:‏ إن صح عنهما ذلك فإنما أهدرا دمه؛ لأن البينة قامت عندهما بصحة ما ادعى القاتل على الذى قتله، وسيأتى بيان ما للعلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحدود، إن شاء الله‏.‏

وفيه‏:‏ أن التلاعن لا يكون إلا عند السلطان، أو عند من استخلفه من الحكام، وهذا إجماع من العلماء‏.‏

وفى قول عويمر‏:‏ أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، دليل أن اللعان بين كل زوجين؛ لأنه لم يُخَص رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏، ولم يخص زوجًا من زوج، ففى هذا حجة لمالك والشافعى أن العبد بمنزلة الحر فى قذفه ولعانه، غير أنه لا حد على من قذف مملوكته؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏، وهن الحرائر المسلمات، والأمة المسلمة والحرة اليهودية أو النصرانية تلاعن الحر المسلم، وكذلك العبد وإن تزوج الحرة المسلمة والأمة المسلمة أو الحرة اليهودية أو النصرانية لاعنها، وبه قال الشافعى، وقال أبو حنيفة والثورى‏:‏ إذا كان أحد الزوجين مملوكًا أو ذميًا أو كانت المرأة ممن لا يجب على قاذفها الحد، فلا لعان بينهما إذا قذفها‏.‏

واختلف العلماء فى صفة الرمى الذى يوجب اللعان بين الزوجين، فقال مالك فى المشهور عنه‏:‏ إن اللعان لا يكون حتى يقول الرجل لامرأته‏:‏ رأيتها تزنى أو ينفى حملاً بها أو ولدًا منها، وحديث سهل هذا وإن لم يكن فيه تصريح بالرؤية، فإنه قد جاء التصريح بذلك فى حديث ابن عباس وغيره فى قصة هلال بن أمية أنه وجد مع امرأته رجلاً، فقال‏:‏ يا رسول الله، رأيت بعينى وسمعت بأذنى، فنزلت آية اللعان، ذكره المصنفون، وذكره الطبرى‏.‏

وقال الثورى، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ إنه من قال لزوجته‏:‏ يا زانية، وجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وسواء قال لها‏:‏ يا زانية أو زنيت، ولم يدعى رؤية‏.‏

وقد روى هذا القول عن مالك أيضًا، وحجة هذا القول عموم قوله‏:‏ ‏(‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏، كما قال‏:‏ ‏(‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏، فأوجب بمجرد القذف الحد على الأجنبى إن لم يأت بأربعة شهداء، وأوجب على الزوج اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، فسوى بين الرميتين بلفظ واحد، وقد أجمعوا أن الأعمى يلاعن ولا تصح منه الرؤية، وإنما يصح لعانه من حيث وطؤه لزوجته، وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول‏:‏ لمست فرجًا فى فرجها‏.‏

وذهب جمهور العلماء إلى أن تمام اللعان منها تقع الفرقة بينهما، وسيأتى بيان هذه المسألة فى بابها بعد هذه المسألة، إن شاء الله تعالى‏.‏

وشذ قوم من أهل البصرة منهم عثمان البتى، فقالوا‏:‏ لا تقع الفرقة ولا تأثير للعان فيها، وإنما يسقط النسب والحد وهما على الزوجية كما كانا حتى يطلق الزوج، وذكر الطبرى أن هذا قول جابر بن زيد، واحتج أهل هذه المقالة بقول عويمر‏:‏ كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا، قالوا‏:‏ ولم ينكر النبى صلى الله عليه وسلم ذلك عليه ولم يقل له‏:‏ لم قلت وأنت لا تحتاج إليه‏؟‏ لأنها باللعان قد طلقت‏.‏

فقال لهم مخالفوهم‏:‏ لا حجة لكم فى حديث عويمر؛ لأن قوله‏:‏ كذبت عليها إن أمسكتها، وطلاقه لها ثلاثًا إنما كان منه؛ لأنه لم يظن أن الفرقة تحصل باللعان، ولو كان عنده أن الفرقة تحصل باللعان لم يقل هذا، وقد جاء فى حديث ابن عمر، وابن عباس، بيان هذا أن النبى، عليه السلام، فرق بين المتلاعنين، وقال‏:‏ لا سبيل لك عليها، فطلاق عويمر لها لغو، ولم ينكر ذلك النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحتمل أن يكون العجلانى أراد التأكيد، أى أنها لو لم تقع الفرقة وأمسكتها فهى طالق ثلاثًا‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فإن قال من يذهب إلى قول البتى، قول ابن عمر، وابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين، إنما كان فى قضية عويمر، وكان طلاقها بعد اللعان، فلذلك فرق بينهما، وقد روى ابن شهاب، عن سهل بن سعد، قال‏:‏ فطلقها العجلانى ثلاث تطليقات، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ يحتمل أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم فرق بينهما بعد اللعان، ثم طلقها ثلاثًا حتى يكون تفريق النبى صلى الله عليه وسلم واقعًا موقعه على ما روى ابن عمر‏.‏

وقد قال الأكثر‏:‏ لا يجوز أن يمسكها ويفرق بينهما، وقد استحب النبى صلى الله عليه وسلم الطلاق بعد اللعان، ولم يستحبه قبله، فعلم أن اللعان قد أحدث حكمًا‏.‏

وقد احتج من قال‏:‏ إن الطلاق الثلاث مجتمعات تقع للسنة بطلاق عويمر زوجته ثلاثًا، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا‏:‏ ولو كان وقوع الثلاث مجتمعات لا يجوز لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكره، وقال‏:‏ لا يجوز ذلك فى ديننا‏.‏

باب التَّلاعُنِ فِى الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ سَهْلِ، فَتَلاعَنَا فِى الْمَسْجِدِ، وَأَنَا شَاهِدٌ، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغَا مِنَ التَّلاعُنِ، فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْنِ‏.‏

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ فَكَانَتِ السُّنَّةُ بَعْدَهُمَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ حَامِلا، وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لأمِّهِ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِى مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَها‏.‏

قَالَ سَهْل، عن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلا أُرَاهَا إِلا قَدْ صَدَقَتْ، وَكَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ، فَلا أُرَاهُ إِلا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا‏)‏، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فيه أن سنة اللعان أن يكون فى المسجد‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فى أمر النبى، عليه السلام، المتلاعنين بالتلاعن فى المسجد دليل على أنه ينبغى لكل حاكم من حكام المسلمين أن يستحلف كل من أراد استحلافه على عظيم من الأمر كالقسامة على الدم وعلى المال ذى القدر والخطر العظيم، ونحو ذلك فى المساجد العظام، فإن كانا بالمدينة فعند قبر النبى صلى الله عليه وسلم، وإن كانا بمكة فبين الركن والمقام، وإن كانا ببيت المقدس ففى مسجدها، ثم فى موضع الصخرة، وإن كانا ببلدة غيرها، ففى جامعها وحيث يعظم منها، وإنما أمرهما، عليه السلام، باللعان فى مسجده لعلمه أنهما يعظمان ذلك الموضع، فأراد التعظيم عليهما ليرجع المبطل منهما إلى الحق وعجز عن الأيمان الكاذبة، وكذلك أيضًا كان لعانه بينهما بعد العصر لعظم اليمين الكاذبة عند الله فى ذلك الوقت‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يلاعن فى المسجد إلا أن تكون حائضًا، فعلى باب المسجد‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ولست أقول أنه إن لاعن بينهما فى مجلس يكره، أو حيث كان من الأماكن، وفى أى الأوقات أنه مضيع فرضًا أو مدخل بذلك من فعله فى اللعان فسادًا‏.‏

وقوله‏:‏ وكانت حاملاً، اختلفوا فى الرجل ينتفى من حمل زوجته، فقالت طائفة‏:‏ له أن يلاعن إذا قال‏:‏ ليس هو منى، وقد استبرأتها قبل هذا الحمل، ويسقط عنه الولد، هذا قول مالك‏.‏

وقال ابن أبى ليلى‏:‏ يجوز اللعان بنفى الحمل، وبه قال الشافعى، ولم يراع استبراء، وزعم أن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم وتلد مع الاستبراء‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى وزفر‏:‏ إذا قال لامرأته‏:‏ ليس هذا الحمل منى، سواء قال‏:‏ استبرأتها أم لا، لم يكن قاذفًا، وبه قال ابن الماجشون‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ إن جاءت بالولد بعدما قال لستة أشهر لاعن، وإن جاءت به لأكثر لم يلاعن، وحجة من لم يوجب اللعان على الحمل أنه قال بنفس الحمل، ولا يقطع على صحته ولعله ريح، ولا لعان إلا بيقين‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحجة مالك ومن وافقه أن النبى صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلانى وامرأته وكانت حاملاً، ألا ترى قوله‏:‏ إن جاءت به أحمر قصيرًا فلا أراها إلا صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين، فلا أراه إلا قد صدق عليها، فجاءت به على النعت المكروه‏.‏

وقول الكوفيين خلاف لهذا الحديث، فلا يلتفت إلى قولهم‏.‏

وأما فساده من جهة النظر، فإن اللعان وضع بين الزوج لمعنى، وهو أن لا يلحق به ولد ليس منه، فالضرورة داعية إلى حصول اللعان فى هذه الحال، وقد جعل اللعان يدفع العار عما يلحقه فى زوجته، فهو محتاج إلى اللعان‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقد زعم أبو حنيفة أن رجلاً لو اشترى جارية فوجدها حاملاً أن ذلك عيب ترد به، فإن كان الحمل لا يوقف عليه ولا يعلم، فقد يجب أن لا يكون لمشترى الجارية الحامل ردها، إذ لا سبيل له إلى العلم بذلك، وإن كان إلى العلم به سبيل حتى يجوز به رد الجارية، فكذلك السبيل إلى العلم حتى يجوز به اللعان مثله لا فرق بينهما‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن جاءت به أحمر قصيرًا، فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين، فلا أراه إلا قد صدق عليها‏)‏، فجاءت به على النعت المكروه، البيان البين أن الله تعالى منع العباد أن يحكموا فى عباده بالظنون والتهم، وأنه جعل الأحكام بينهم على ما ظهر دون ما بطن منهم واستتر عنهم، وأنه وكل الحكم فى سرائرهم وما خفى من أمورهم إلى الله دون سائر خلقه، وأنه لو كان لأحد من ذى سلطان أو غيره أخذ أحد بغير الظاهر، لكان أولى الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلمه بكثير من سرائر الناس، ولكنه كان لا يأخذ أحدًا إلا بما ظهر من أمره، وتبين للناس منه‏.‏

ولذلك كان يقبل ظاهر ما يبديه المنفقون ولا يأخذهم بما يبطنون مع علمه بكذبهم، وكان يجعل لهم بظاهر ما يظهرونه، من الإقرار بتصديقه والإيمان بما جاء به من عند الله، حكم الله فى المناكحة والموارثة والصلاة عليهم إذا ماتوا، وغير ذلك من الأمور، فكذلك الواجب على كل ذى سلطان أن يعمل فى رعيته مثل الذى عمل به النبى، عليه السلام، فيمن وصفت ممن كان يظهر قولاً وفعلاً، من أخذه بما يظهر من القول والفعل دون أخذه بالظنون والتهم التى يجوز أن تكون حقًا ويجوز أن تكون باطلاً‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه أن الحاكم إذا حكم بالبينة المنصوصة، ثم تبين له بدليل غير ما ظهر إليه فيما حكم به، أنه لا يرد ما حكم فيه إلا بالنص لا بما قام له من الدليل، ألا ترى أنه بعد أن جاءت به على المكروه لم يحدها، وكذلك قام له الدليل من الشبه فى ابن وليدة زمعة، فلم يقض به لسعد بن أبى وقاص، ولكن أمر سودة بنت زمعة بالاحتجاب منه، فحكم للشبه فى عين الحكم المنصوص أولا، ولم يعرض لحكم الله بفسخ من أجل الدليل‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن من اقتطع شيئًا من الحقوق بيمين كاذبة أن الله يلعنه ويغضب عليه كما جاء فى الحديث، ألا ترى أنه قام الدليل على كذب المرأة بعد يمينها بوضعها الصفة المكروهة، فكان ذلك هتك سترها فى الدنيا وفضيحتها بين قومها التى منها فرت، وهذا من العقوبات فى الدنيا، فكيف فى الآخرة‏؟‏ وقوله‏:‏ كأنه وحرة، دويبة حمراء كالعضاة تلزق بالأرض، ومنه قيل‏:‏ وحر الصدر يوحر وحرًا ذهبوا إلى لزوق الحقد بالصدر فشبهوه بإلزاق الوحرة بالأرض‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ‏)‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس‏:‏ أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلاعُنُ عِنْدَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِىٍّ فِى ذَلِكَ قَوْلا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ رَجُلا، فَقَالَ عَاصِمٌ‏:‏ مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأمْرِ إِلا لِقَوْلِى، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِى وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا، قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِى ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، خَدْلا آدَمَ كَثِيرَ اللَّحْمِ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ بَيِّنْ‏)‏، فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِى ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ، فَلاعَنَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بَيْنَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ فِى الْمَجْلِسِ‏:‏ هِىَ الَّتِى قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ‏)‏، فَقَالَ‏:‏ لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِى الإسْلامِ السُّوءَ‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب قول الإمام‏:‏ اللهم بين‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أنه قد يبتلى الإنسان بقوله، وذلك أن عاصم بن عدى كان قد قال عند النبى صلى الله عليه وسلم أنه لو وجد مع امرأته رجلاً لضربه بالسيف حتى يقتله، فابتلاه الله بعويمر رجل من قومه ليريه الله كيف حكمه فى ذلك، وليعرفه أن التسلط فى الدماء لا يسوغ بالدعوى، ولا يكون إلا بحكم من الله ليرفع أمر الجاهلية‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏لو كنت راجمًا بغير بينة‏)‏، فى المرأة التى كانت تعلن بالسوء، أى لو كنت متعديًا حق الله فيها إلى ما قام من الدلالة عليها لرجمت هذه، لبيان الدلائل على فسقها، ولكن ليس لأحد أن يرجم بغير بينة فيتعدى حدود الله، والله قد نص أن لا يتعدى حدوده لما أراد تعالى من ستر عباده‏.‏

قال غيره‏:‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اللهم بين‏)‏، معناه الحرص على أن يعلم من باطن المسألة ما يقف به على حقيقتها، وإن كانت شريعته قد أحكمها الله عز وجل فى القضاء بالظاهر، وإنما صارت شرائع الأنبياء يقضى فيها بالظاهر؛ لأنها تكون سننًا لمن بعدهم من أمتهم ممن لا سبيل له إلى وحى يعلم به بواطن الأمور‏.‏

وقال ابن قتيبة فى قوله‏:‏ ‏(‏خدل‏)‏، الخدل العظيم الساقين، وهو ضد الحمش، يقال‏:‏ رجل حمش الساقين إذا كان رقيقهما، وخدل إذا كان عظيمهما‏.‏

باب صَدَاقِ الْمُلاعَنَةِ

- فيه‏:‏ ابْن جُبَيْر قال‏:‏ قُلْتُ لابْنِ عُمَر‏:‏ رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ‏:‏ فَرَّقَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَىْ بَنِى الْعَجْلانِ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ‏)‏‏؟‏ فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا‏.‏

قَالَ أَيُّوبُ‏:‏ فَقَالَ لِى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ‏:‏ إِنَّ فِى الْحَدِيثِ شَيْئًا لا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ‏.‏

قال‏:‏ قال الرَّجُلُ‏:‏ مَالِى، قَالَ‏:‏ قِيلَ‏:‏ لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ‏.‏

وترجم له ‏(‏باب قول الإمام للمتلاعنين‏:‏ إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب‏؟‏‏)‏‏.‏

صداق الملاعنة واجب لها بالإجماع؛ لأنهما كانا على نكاح صحيح قبل التعانهما، وكل من وطئ امرأة بشبهة، فالصداق لها واجب، فكيف النكاح الصحيح‏؟‏ قال ابن المنذر‏:‏ وفى حديث ابن عمر دليل على وجوب صداقها، وأن الزوج لا يرجع عليها بالمهر، وإن أقرت بالزنا؛ لقوله‏:‏ ‏(‏إن كنت صدقت عليها فبما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد منك‏)‏، هكذا رواه فى باب قول الإمام للمتلاعنين‏:‏ إن أحدكما كاذب‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولو قال قائل‏:‏ إن فيه دليلاً على أن المهر إنما يجب بالمسيس لا بالخلوة لساغ ذلك‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وحديث هذا الباب يوجب الصداق بالدخول‏.‏

قال المهلب فى قوله‏:‏ ‏(‏إن كنت صادقًا فقد دخلت بها‏)‏، فيه دليل على أن الدخول بالمرأة يكنى به عن الجماع، وهو دليل على وجوب جماعها، وإن كان قد لا يكون جماع مع الدخول، فغلب عليه السلام ما يكون فى الأكثر وهو الجماع، لما ركب الله فى نفوس عباده من شهوة النساء، وسيأتى اختلاف أهل العلم فى هذه المسألة فى باب المهر للمدخول عليها بعد هذا إن شاء الله‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب‏؟‏‏)‏، أنه ينبغى للإمام إذا أراد استحلاف من لزمته يمين لغيره فرآه ماضيًا على اليمين أن يذكره بالله ويعظه ويتلوا عليه قول الله‏:‏ ‏(‏إن الذين يشترون بعهد الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ الآية، ليرتدع عن اليمين إن كان مبطلاً فيها، ولذلك أمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يوقف كل واحد منهما عند الخامسة، فيقال له‏:‏ اتق الله، فإنها الموجبة التى توجب عذاب الله وإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفيه بدء الإمام بعظة الزوجين والبدء بالزوج فى ذلك قبل المرأة‏.‏

باب التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا وَأَحْلَفَهُمَا‏.‏

اختلف العلماء متى تقع الفرقة باللعان، فذكر ابن المنذر، عن ابن عباس، أن بانقضاء اللعان تقع الفرقة بينهما، وإن لم يفرق الحاكم، وهو قول ربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، وزفر، وأبى ثور‏.‏

وقال الثورى، وأبى حنيفة وصاحباه‏:‏ لا تقع الفرقة بينهما بتمام اللعان حتى يفرق بينهما الحاكم، وبه قال أحمد‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إذا أكمل الزوج اللعان وقعت الفرقة بينهما ولم يتوارثا ولو لم تكمل الفرقة ومات ورثه ابنه‏.‏

واحتج الشافعى، فقال‏:‏ لما كان التعان الزوج يسقط الحد وينفى الولد كان يقطع العصمة ويرفع الفراش؛ لأن المرأة لا مدخل لها فى الفراق وقطع للعصمة، ولا معنى لالتعان المرأة إلا فى درء الحد عنها‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقول الشافعى خلاف القرآن، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏ إلى آخر الآيات، وعلى قوله‏:‏ ينبغى أن لا تلاعن المرأة وهى غير زوجة، وقد اتفقوا أنه من طلق امرأته وأبانها ثم قذفها أن لا تلاعن؛ لأنها ليست بزوجة كذلك لو بانت بلعان الزوج لم يجز لعان المرأة‏.‏

وحجة الكوفيين أن الفرقة لا تقع إلا بتفريق الحاكم حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين، فأضاف الفرقة إليه لا إلى اللعان، قالوا‏:‏ فلما كان اللعان مفتقرًا إلى حضور الحاكم كان مفتقرًا إلى تفريقه بخلاف الطلاق قياسًا على العنين أنه لا يفرق بينه وبين امرأته إلا الحاكم، والحجة لمالك ومن وافقه حديث ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين بلعانهما جميعًا، فدل أن اللعان أوجب الفرقة التى قضى بها النبى صلى الله عليه وسلم عند فراغهما من اللعان، وقال‏:‏ لا سبيل لك عليها إعلامًا منه أن اللعان رفع سبيله عليها، وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذًا لما أوجب الله بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان فى اللغة‏.‏

وإذا قيل‏:‏ لاعن، فهى مفاعلة من اثنين، ولو كان النكاح بينهما باقيًا حتى يفرق الحاكم لكان إنما يفرق بين زوجين صحيح النكاح غير فاسد من غير سبب حدث من أجله فساده، فإن قال ذلك خرج من قول جميع الأمة وأجاز للحاكم التفريق بين من شاء من الأزواج من غير سبب حدث بينهما يبطل به نكاحهم، وقياسه على العنين خطأ؛ لأنه يجوز لها أن تراجع العنين إن رضيت به، ولا يجوز لها مراجعة الملاعن فافترقا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفى إجماعهم أن زوجة الملاعن لا تحل له بعد زوج إذا لم يكذب نفسه، دليل بين أن النكاح لو لم يكن منفسخًا باللعان، لكان طلاق العجلانى يقع عليها، وكانت تحل له بعد النكاح‏.‏

وذكر جمهور العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدًا، وإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد ولم ترجع إليه أبدًا‏.‏

قال مالك‏:‏ وعلى هذا السنة التى لا شك فيها ولا اختلاف، ذكر ابن المنذر، عن عطاء، أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد‏.‏

وقال‏:‏ قد تفرقا بلعنة من الله‏.‏

وقال أبو حنيفة ومحمد‏:‏ إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، وكان خاطبًا من الخطاب إن شاء، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن، وسعيد بن جبير، وحجة هؤلاء الإجماع على أنه إن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، قالوا‏:‏ فيعود النكاح حلالاً كما عاد الولد؛ لأنه لا فرق بين شىء من ذلك‏.‏

وحجة الجماعة فى أنهما لا يجتمعان أبدًا أن النبى صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين، وقال‏:‏ لا سبيل لك عليها، ولم يقل له‏:‏ إلا أن تكذب نفسك، فكان كالتحريم المؤبد فى الأمهات ومن ذكر معهن، وهذا شأن كل تحريم مطلق التأبيد، ألا ترى أن المطلق ثلاثًا لما لم يكن تحريمه تأبيدًا أوقع فيه الشرط بنكاح زوج غيره، ولو قال‏:‏ فإن طلقها فلا تحل له، لكان تحريمًا مطلقًا لا تحل له أبدًا، وقد أطلق النبى صلى الله عليه وسلم التحريم فى الملاعنة، ولم يضمنه بوقت، فهو مؤبد، فإن أكذب نفسه لحق به الولد؛ لأنه حق جحده ثم عاد إلى الإقرار به، وليس كذلك النكاح؛ لأنه حق ثبت عليه بقوله‏:‏ ‏(‏لا سبيل لك عليها‏)‏، فلا يتهيأ له إبطاله، وقد روى ابن إسحاق وجماعة عن الزهرى، قال‏:‏ فمضت السنة بأنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدًا‏.‏

باب يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلاعِنَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرأَةِ‏.‏

أما قول ابن عمر‏:‏ وأحلق الولد بالمرأة، فمعلوم أن الأم لا ينتفى عنها ولدها؛ لأنها ولدته ومعناه أنه لما انتفى عن أبيه بلعانها ألحقه بأمه خاصة، كأنه لا أب له، فلا يرث أباه ولا يرثه أبوه ولا أحد ينسبه، وإنما ينسب إلى عصبة أمه، وعلى هذا علماء الأمصار‏.‏

وقيل‏:‏ بل ألحقه بأمه، فجعل أمه له كأبيه وأمه، ولهذا الحديث، والله أعلم، اختلف العلماء فى ميراث ابن الملاعنة على ما نذكره فى كتاب الفرائض‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وإنما يلحق ولد الملاعنة بأمه ولا يدعى لأب ما دام الملاعن مقيمًا على نفيه عن نفسه بعد الالتعان فأما إن هو أقر به يومًا، فإنه يلحق به نسبه، وهذا إجماع من العلماء‏.‏

باب إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا

- فيه‏:‏ عَائِشَة، أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَأَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لا يَأْتِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلا مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا، حَتَّى تَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث من الفقه‏:‏ أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها إلا بطلاق زوج قد وطئها، ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وعلى هذا جماعة العلماء، إلا سعيد بن المسيب‏.‏

قال‏:‏ أما الناس فيقولون‏:‏ لا تحل للأول حتى يجامعها الثانى، وأنا أقول‏:‏ إذا تزوجها تزويجًا صحيحًا لا يريد بذلك إحلالها، فلا بأس أن يتزوجها الأول، وهذا قول لا نعلم أحدًا من أهل العلم وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها‏.‏

قال غيره‏:‏ وأظنه لم يبلغه حديث العسيلة، فأخذ بظاهر من القرآن، وهو قوله‏:‏ ‏(‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها ‏(‏، يعنى الثانى،‏)‏ فلا جناح عليهما أن يتراجعا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وليس فى القرآن ذكر مسيس فى هذا الموضع، وغابت عنه السنة فى ذلك، وكذلك شذ عنه الحسن البصرى، فقال‏:‏ لا تحل للأول حتى يطأها الثانى وطئًا فيه إنزال، وقال‏:‏ معنى العسيلة الإنزال، وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا‏:‏ التقاء الختانين يحلها للزوج الأول، وقالوا‏:‏ ما يوجب الحد والغسل ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين، ويوجب كمال الصداق يحل المطلقة، والعسيلة كناية عن اللذة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد اعتل بعض أهل العلم بقوله‏:‏ ‏(‏حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك‏)‏، أن الزوج الثانى إن أتاها نائمة أو مغمى عليها لا تشعر، أنها لا تحل للزوج الأول حتى يذوقا جميعًا العسيلة، إذ غير جائز أن يسوى بينهما، عليه السلام، فى ذوق العسيلة وتحل بأن يذوقها أحدهما، وهذا قول على، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وابن عمر، وهو قول جماعة العلماء، ولا خلاف فى ذلك إلا ما روى عن ابن المسيب‏.‏

وقوله فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏أو يذوق عسيلتك‏)‏، لا يوجب ذوق أحدهما للعسيلة دون صاحبه، و ‏(‏أو‏)‏ هاهنا بمعنى الواو، وذلك مشهور فى لغة العرب، وقد بين ذلك رواية من روى‏:‏ ‏(‏ويذوق عسيلتك‏)‏، ذكره فى باب من أجاز طلاق الثلاث، وفى باب من قال لامرأته‏:‏ أنت علىّ حرام‏.‏

واختلفوا فى صفة الوطء الذى يحل المطلقة ثلاثًا، فقال مالك‏:‏ لا يحلها إلا الوطء المباح، فإن وقع الوطء فى صوم أو اعتكاف أو حيض أو نفاس، لم تحل المطلقة ثلاثًا، ولا يحل الذمية عنده وطء الذمى ولا الصبى إذا لم يكن بالغًا‏.‏

وقال الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى‏:‏ يحلها وطء كل زوج بنكاح صحيح، وكذلك لو أصابها محرمة أو صائمة أو حائضًا أو وطئها مراهق لم يحتلم تحل بذلك كله، وتحل الذمية للمسلم بوطء زوج ذمى، وبهذا كله قال ابن الماجشون وبعض المدنيين؛ لأنه زوج‏.‏

واختلفوا فى عقد نكاح المحلل، فقال مالك‏:‏ لا يحلها إلا نكاح رغبة، وإن قصد التحليل لم يحلها، وسواء علم ذلك الزوجان أو لم يعلما لا تحل ويفسخ قبل الدخول وبعده، وهذا قول الليث، والثورى، والأوزاعى، وأحمد‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى‏:‏ النكاح جائز، وله أن يقيم على نكاحه، وهو قول عطاء والحكم‏.‏

وقال القاسم، وسالم، وعروة، والشعبى‏:‏ لا بأس أن يتزوجها ليحللها إذا لم يعلم بذلك الزوجان، وهو مأجور بذلك، وهو قول ربيعة، ويحيى بن سعيد‏.‏

والحجة لمالك أن النبى صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له من حديث على، وابن مسعود، وعقبة ابن عامر، وفى حديث عقبة‏:‏ ‏(‏ألا أدلكم على التيس المستعار‏)‏، وهو المحلل ولا فائدة للعنة إلا إفساد النكاح والتحذير منه، وقد سئل ابن عمر عن نكاح المحلل، فقال‏:‏ ذلك السفاح‏.‏

واحتج الكوفيون بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تنكح زوجًا غيره‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وقد وجد الشرط وعقد الثانى على شرائطه بعد تحليلها للأول، فلا فرق بين أن ينوى التحليل أم لا، قالوا‏:‏ ألا ترى أن عقد النكاح يبيح الوطء ويوجب الصداق والنفقة وتحليل الطلاق، ولا فرق بين أن ينوى ذلك، فيقول‏:‏ أنكح لأطأ، وبين أن لا ينوى ذلك‏.‏

وفى هذا الحديث دليل على أن للمرأة المطالبة بحقها من الجماع وأن لها أن تدعو إلى فسخ النكاح، وذلك أنها إذا ادعت بهذا القول العُنَّة، ولم ترد أن ذلك منه فى رقة الهدبة إنما أرادت أنه كالهدبة ضعفًا واسترخاء، وقد بان ذلك فى رواية أيوب، عن عكرمة، أنها قالت‏:‏ والله ما لى إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عنى من هذه، وأخذت هدبة من ثوبها، فقالت‏:‏ كذبت يا رسول الله، إنى لأنفضها نفض الأديم‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ اختلف أهل العلم فى الرجل ينكح المرأة، ثم تطالبه بالجماع، فقال كثير من أهل العلم‏:‏ إذا وطئها مرة لم يؤجل أجل العنين، روى هذا عن عطاء، وطاوس، والحسن، والزهرى، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وحكى أبو ثور عن بعض أهل الأثر أنه كلما أمسك عنها أجل لها سنة؛ لأنه ليس لها فيما مضى من جماعها مقنع‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ إذا غشيها مرة واحدة ثم أمسك، فإن رافعته أجل لها سنة، وذلك أن العلة التى فى العنين قد صارت فيه، ولست أنظر فى هذا إلى أول النكاح ولا آخره إذا كانت العلة موجودة، وذلك أن من حقوقها الجماع، فمتى كان المنع لعلة كان حكمه حكم العنين‏.‏